كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وطالما وكلتك في التكليف فطبيعي أنْ أُوكّلك في العقوبة، فإنْ حدث تقصير في هذه المسألة فالمخالفة منك، لا من الولد؛ لأنني لم أُكلّفه إنما كلَّفْتُك أنت.
لذلك بدأ لقمان أوامره لولده بإقامة الصلاة، لأنه مُكلَّف بهذا الأمر، فولده ما يزال صغيرًا بدليل قوله: {يابني} [لقمان: 17] فالتكليف هنا من الوالد، فإنْ كان الولد بالغًا حال هذا الأمر فالمعنى: لاحظ التكليف من الله بإقامة الصلاة.
أما الزكاة، وهي تكليف من الله أيضًا فلم يذكرها هنا- وهذه من حكمة لقمان ودقَّة تعبيره، وقد حكاها لنا القرآن الكريم لنأخذ منها مبادئ نعيش بها.
ثانيًا: إنْ كلَّفه بالزكاة فقال: أقم الصلاة وآت الزكاة فقد أثبت لولده ملكية، ومعروف أن الولد لا ملكيةَ له في وجود والده، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك» وذكرنا أن لقمان لما علم بموت أبيه قال: إذن ملكتُ أمري فأمره ليس ملْكًا له في حياة أبيه؛ لذلك لم يأمر ولده بالزكاة، فالزكاة في ذمته هو، لا في ذمة ولده.
وتتأكد لدينا هذه المسألة حين نقرأ قول الله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسكُمْ أَن تَأْكُلُوا من بُيُوتكُمْ أَوْ بُيُوت آبَآئكُمْ أَوْ بُيُوت أُمَّهَاتكُمْ أَوْ بُيُوت إخْوَانكُمْ أَوْ بُيُوت أَخَوَاتكُمْ أَوْ بُيُوت أَعْمَامكُمْ أَوْ بُيُوت عَمَّاتكُمْ أَوْ بُيُوت أَخْوَالكُمْ أَوْ بُيُوت خَالاَتكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتحهُ أَوْ صَديقكُمْ}.
[النور: 61].
فالله تعالى رفع عنَّا الحرج أنْ نأكل من هذه البيوت، ونلحظ أن الآية ذكرتْ الأقارب عدا الأبناء، وكان الترتيب المنطقي أن يقول بعد أمهاتكم: أو بيوت أبنائكم، فلماذا لم يذكر هنا بيوت الأبناء؟ قالوا: لأنها داخلة في قوله: بيوتكم، فبيت الابن هو بيت الأب، والولد وما ملكتْ يداه ملْكٌ لأبيه.
ثم يقول لقمان لولده: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ} [لقمان: 17] الصبر: حَمْل النفس على التجلُّد للأحداث، حتى لا تعينَ الأحداث على نفسك بالجزع، فأنت أمام الأحداث تحتاج إلى قوة مضاعفة، فكيف تُضعف نفسك أمامها؟
والمصيبة تقع إما لك فيها غريم، أو ليس لك فيها غريم، فالذي يسقط مثلًا، فتنكسر ساقه، أو الذي يفاجئه المرض. الخ هذه أقدار ساقها الله إليك بلا سبب فلا غريم لك فيها؛ لذلك يجعلها في ميزامك: إما أنْ يعلي بها درجاتك، وإما أنْ يُكفّر بها سيئاتك؛ لذلك كان الكفار بفرحون إذا أصاب المسلمين مصيبة، كما فرحوا يوم أُحُد، وقد ردَّ الله عليهم وبيَّن غباءهم، وقال سبحانه: {قُل لَّن يُصيبَنَآ إلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51] وتأمل الجار والمجرور لنا ولم يقُلْ كتب علينا، إذن: فالمعصية في حساب له لا عليه فلماذا تفرحون في المصيبة تقع بالمسلمين؟
وأوصى بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الذي يتعرض لهذين الأمرين لابد أن يصيبه سوء من جراء أمره بالمعروف أو نَهْيه عن المنكر، فإنْ تعرضتْ للإيذاء فاصبر؛ لأن هذا الصبر يعطيك جزاءً واسعًا.
وتغيير المنكر له مراحل وضحها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «مَنْ رأى منكم منكرًا فليُغيّره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
فالله أمرك أنْ تُغيّر المنكر، لكن جعل لك تقدير المسألة ومدى إمكانك فيها، فالدين يريدك مُصلحًا لكن لا يريد أنْ تلقى بنفسك إلى التهلكة، فلك أنْ تُغيّر المنكر بيدكَ فتضرب وتمنع إذا كان لك ولاية على صاحب المنكر، كأن يكون ولدك أو أخاك. إلخ.
فلك أن تضربه مثلًا إنْ رأيتَ سيجارة في فمه، أو أنْ تكسر له كأس الخمر إنْ شربها أو تمزق له مثلًا ورق الكوتشينة، فإنْ لم تكُنْ لك هذه الاستطاعة فيكفي أنْ تُغيّر بلسانك إنْ كانت لديك الكلمة الطيبة التي تداوي دون أن تجرح الآخرين، ودون أنْ يؤدي النصح إلى فتنة، فيكون ضرره أكثر من نفعه.
فإنْ لم يكُنْ في استطاعتك هذه أيضًا، فليكُنْ تغيير المنكر بالقلب، فإنْ رأيتَ منكرًا لا تملك إلا أنَّ تقول: اللهم إنَّ هذا منكر لا يرضيك لكن أيُعَدُّ عمل القلب تغييرًا للمنكر وأنت مطالب بأنْ تُغيّره بيدك يعني: إلى ضده؟ وهل هذه الكلمة تغير من الواقع شيئًا؟
قالوا: لا يحدث التغيير بالقلب إلا إذا كان القالب تابعًا للقلب، فالقلب يشهد أنَّ هذا منكر لا يُرضي الله، والقالب يساند حتى لا تكون منافقًا، فأنت أنكرتَ عليه الفعل، ولا استطاعة لك على أنْ تمنعه، ولا أن تنصحه، فلا أقلَّ من أنْ تعزله عن حياتك وتقاطعه، وإلاَّ فكيف تُغيّر بقلبك إنْ أنكرتَ عليه فعله وأبقيتَ على وُدّه ومعاملته؟
إذن: لا يكون التغيير بالقلب إلا إذا أحسَّ صاحب المنكر أنه في عزلة، فلا تهنئه في فرح، ولا تعزيه في حزن، وإنْ كنتَ صاحب تجارة، فلا تَبعْ له ولا تشتر منه.
الخ.
وما استشرى الباطل وتَبجح أهل الفساد وأهل المنكر إلا لأن الناس يحترمونهم ويعاملونهم على هذه الحال، بل ربما زاد احترام الناس لهم خوفًا من باطلهم ومن ظلمهم.
فالتغيير بالقلب ليس كلمة تقال إنما فعل وموقف، وقد علَّمنا ربنا- تبارك وتعالى- هذه القضية في قوله سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ في الكتاب أَنْ إذَا سَمعْتُمْ آيَات الله يُكْفَرُ بهَا وَيُسْتَهْزَأُ بهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتى يَخُوضُوا في حَديثٍ غَيْره إنَّكُمْ إذًا مّثْلُهُمْ إنَّ الله جَامعُ المنافقين والكافرين في جَهَنَّمَ جَميعًا} [النساء: 140].
ويقول سبحانه في آية أخرى: {وَإذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتنَا فَأَعْرضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُوا في حَديثٍ غَيْره وَإمَّا يُنسيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68].
والنبي صلى الله عليه وسلم في قصة الثلاثة الذين خُلّفوا بغير عذر في غزوة تبوك، يُعلّمنا كيف نعزل أصحاب المنكر، لا بأن نعزلهم في زنزانة كما نفعل الآن، إنما بأن نعزل المجتمع عنهم، ليس المجتمع العام فحسب، بل عن المجتمع الخاص، وعن أقرب الناس إليه.
وقد تخلف عن هذه الغزوة عدة رجال اعتذروا لرسول الله فقَبل علانيتهم وترك سرائرهم لله، لكن هؤلاء الثلاثة لم يجدوا لأنفسهم عذرًا، ورأوا أنهم لا يستطعيون أنْ يكذبوا على رسول الله، ولم يحبسهم الرسول، إنما حبس المجتمع عنهم حتى الأقارب، فكان الواحد منهم يمشي ويتمحك في الناس ليكلمه أحد منهم، فلا يكلمه أحد، وكعب بن مالك يتسوَّر على ابن عمه الحديقة، ويقول له: تعلم أني أحب الله ورسوله فلا يجيبه، ويصلي بجوار الرسول يلتمس أنْ ينظر إليه، فلا ينظر إليه.
ولما نجحت هذه المقاطعة على هذا المستوى أعلاها الشرع وتسلسل بها إلى الخصوصيات في البيت، فعزل هؤلاء الثلاثة عن زوجاتهم، فأمر كلًا منهن ألاَّ يقربها زوجها إلى أن يحكم الله في أمرهم، حتى أن واحدة من هؤلاء جاءت لرسول الله وقالت: يا رسول الله، إن زوجي رجل كهدبة الثوب يعني: ليست له رغبة في أمر النساء فأذن لها رسول الله في أن تخدمه على ألاَّ يقربها.
ظل هؤلاء الثلاثة ثلاثين يومًا في هذا الامتحان العام وعشرة أيام في الامتحان الخاص، ونجح المجتمع العام، ونجح المجتمع الخاص، وهكذا علَّمنا الشرع كيف نعزل أصحاب المنكر وأهل الجريمة، فعزل المجتمع عنهم أبلغ من عزلهم عن المجتمع، لذلك كان وَقْع هذه العزلة قاسيًا على هؤلاء.
فهذا كعب بن مالك يحكي قصته ويقول: لقد ضاقت بي الأرض على سعتها، والحق يقول في وصف حالهم: {حتى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهمُ الأرض بمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ منَ الله إلاَّ إلَيْه ثُمَّ تَابَ عَلَيْهمْ ليتوبوا إنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118].
فلما استوى المجتمع العام والمجتمع الخاص على منهج الله فرَّج الله عن هؤلاء الثلاثة، ونزل قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهمْ ليتوبوا إنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118].
فأسرع أحدهم يبشر كعبًا بهذه البشرى فطار كعب فرحًا بها، وقال: فوالله ما ملكتُ أنْ أخلع عليه ثيابي كلها، ثم أستعير ثيابًا أذهب بها إلى رسول الله.
إذن: ينبغي أن نعزل المجتمع كله عن أصحاب المنكر، لا أن نعزلهم هم في السجون، لكن مَنْ يضمن لنا استقامة المجتمع في تنفيذ هذه العزلة كما نفذها المجتمع المسلم على عهد رسول الله؟
نعود إلى ما كنا نتحدث عنه من أن المصيبة إذا كانت قدرًا من الله ليس لك فيها غريم، فإن الصبر عليها هيّن، فالأمر بينك وبين ربك، أما إنْ كان لك في المصيبة غريم كأن يعتدي عليك أحد فيحرق زرعك أو يقتل ولدك، فهذه تحتاج إلى صبر أشد، فكلما رأيتَ غريمك هاجتْ نفسك وغلى الدم في عروقك، فيحتاج إلى طاقة أكبر ليحمل نفسه على الصبر.
لذلك يقول سبحانه في هذه المسألة: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلكَ لَمنْ عَزْم الأمور} [الشورى: 43] فأكَّدها باللام؛ لأنها تحتاج إلى طاقة أكبر من الصبر وضبط النفس حتى لا تتعدى كلما رأيت الغريم، وهذا من المواضع التي وقف عندها المستشرقون يلتمسون فيها مأخذًا على كلام الله.
يقولون: ما الفرق بين قول القرآن {إنَّ ذَلكَ منْ عَزْم الأمور} [لقمان: 17] وقوله: {إنَّ ذَلكَ لَمنْ عَزْم الأمور} [الشورى: 43].
ثم أيهما أبلغ من الأخرى، فإنْ كانت الأولى بليغة فالأخرى غير بليغة.
ونقول في الرد عليهم: كل من الآيتين بليغة في سياقها، فالتي أُكّدت باللام جاءت في المصيبة التي لك فيها غريم وتحتاج إلى صبر أكبر، أما الأخرى ففي المصيبة التي ليس لك فيها غريم، فهي بينك وبين ربك، والصبر عليها هيّن يسير.
لذلك، فالحق سبحانه يعالج هذه المسألة ليُصفّي النفس ويمنع ثورتها، فيقول: {وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] لتقف النفس عند حدّ الرد بالمثل، ثم يُرقّى المسألة، ويفتح بابًا للعفو:
{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40] وقال في موضع آخر: {وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقبُوا بمثْل مَا عُوقبْتُمْ به وَلَئن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابرينَ} [النحل: 126].
فحين يبيح لك ربك أنْ تأخذ بحقك تهدأ نفسك، وربما تتنازل عن هذا الحق بعد أن أصبح في يدك؛ لذلك كثيرًا ما نرى- خاصة في صعيد مصر حيث توجد عادة الأخذ بالثأر- القاتل يأخذ كفنه على يديه، ويدخل به على ولي الدم، ويُسلّم نفسه إليه، وعندها لا يملك ولي الدم إلا أن يعفو.
حتى في مسألة القتل والقصاص يجعل الحق سبحانه مجالًا لترقية النفس البشرية وأريحيتها، بل ويُسمّي الطرفين إخوة في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفيَ لَهُ منْ أَخيه شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَاءٌ إلَيْه بإحْسَانٍ} [البقرة: 178].
ففي هذا الجو وفي أثناء ما تسيل الدماء يُحدّثنا ربنا عن العفو والإحسان والأخوة، ومعلوم أن هناك فَرْقًا بين أن تأخذ الحق، وبين أنْ تنفذ أخذ الحق بيدك.
فالله تعالى خالق النفس البشرية ويعلم ما جُبلَتْ عليه من الغرائز وما تُكنّه من العواطف، وما يستقر فيها من القيم والمبادئ، لكنه- سبحانه وتعالى- لا يبني الحكم على ارتفاع المناهج في الإنسان، إنما على ضوء هذه الطبيعة التي خلقه عليها، فليس الخَلْق كلهم على درجة من الورع تدعوهم إلى العفو والصفح؛ لذلك أعطاك حقَّ الرد بالمثل على مَن اعتدى عليك {وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] وقال: {وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقبُوا بمثْل مَا عُوقبْتُمْ به} [النحل: 126].
ومع ذلك حين تتأمل هذه الآيات تجد أن تنفيذها من الصعوبة بمكان، فمَنْ لديه القدرة والمقاييس الدقيقة التي تُوقفه عند حدّ المثلية التي أمر الله بها؟
وسبق أنْ بيَّنا: أنه إذا اعتدى عليك شخص وضربك مثلًا، أتستطيع أنْ تضربه مثل ضربته لا تزيد عليها، لأنك إنْ زدتَ صرْتَ ظالمًا، واقرأ بقية الآية: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إنَّهُ لاَ يُحبُّ الظالمين} [الشورى: 40].
وسبق أنْ ذكرنا قصة المرابي اليهودي الذي اتفق مع مدينه على أنْ يقطع من جسمه رطلًا، إذا لم يُؤدّ في الموعد المحدد، وفعلًا جاء موعد السداد، ولم يَف المدين، فرفع اليهودي أمره إلى القاضي وأخبره بشرطه- وكان القاضي مُوفَّقًا قد نوَّر الله بصيرته، فقال لليهودي: نعم لك حَقٌ في أن تُنفذ ما اتفقنا عليه، وسأعطيك السكين على أنْ تأخذ من المدين رطلًا من لحمه في ضربة واحدة، بشرط إذا زدتَ عنها أو نقصتَ أخذناه من لحمك.
وعندها انصرف اليهودي؛ لأن المثلية لا يمكن أن تتحقق، فكأن الله تعالى بهذا الشرط- شرط المثلية في الردّ- يلفت انتباهك إلى أن العفو أوْلَى بك وأصلح.
إذن: يُحدّثنا الحق- تبارك وتعالى- عن العفو وعن الإحسان في المصيبة التي لك فيها غريم، ويبين لنا أنك إذا أخذتَ حقك الذي قرره لك فقد أرحتَ نفسك، لكن حرمتها الأجر الذي تكفَّل الله لك به إنْ أنت عفوتَ.
وكأن الحق- تبارك وتعالى- يريد أنْ يولد من أسباب البغضاء أسبابًا للولاء، فالذي كان من حقك أنْ تقتله ثم عفوتَ عنه أصبحت حياته ملْكًا لك، فهل يفكر لك في سوء بعدها؟
لذلك يُعلّمنا ربنا: {ادفع بالتي هيَ أَحْسَنُ فَإذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَميمٌ} [فصلت: 34].
وأذكر أنني جاءني مَنْ يقول: والله أنا دفعتُ بالتي هي أحسن مع خصمي، فلم أجده وليًا حميمًا كما قال الله تعالى، فقلت له: عليك أن تراجع نفسك؛ لأنك ظننتَ أنك دفعتَ بالتي هي أحسن، لكن الواقع غير ذلك، ولو دفعتَ بالتي هي أحسن لَصدق الله معك، ورأيت خَصْمك وليًا حميمًا، إنما أنت تريد أنْ تُجرّب مع الله والتجربة مع الله شكٌّ.
والنبي صلى الله عليه وسلم يُعلّمنا أنْ نبقى على يقين التوكل ساريًا دون أنْ نفكر كيف يحدث، وقصة الصحابية أم مالك شاهدَة على ذلك، فقد كان عندها غنم تحلب لبنها، فتصنع مما زاد عن حاجتها وحاجة أولادها زبدًا، وكانت تهدي منه إلى رسول الله في عكة عندها، فكان أهل بيت رسول يُفرغون هذه العكة في آنيتهم، ثم يعيدونها إليها وهكذا.
حتى قالت أم مالك: والله ما أصبتُ إدامًا إلا من هذه العكة، وكانت كلما احتاجت الإدام أفرغتْ العكة، فوجدت بها الإدام حتى بعد أن أفرغها أهل بيت الرسول، لكن خُيّل لها في يوم من الأيام أنها أسرفت في استعمال هذه العكة، وظنت أن ما بها من إدام قد نفد، فأخذتها وعصرتها، فلم تجد فيها شيئًا، فظنت أن رسول الله غاضب منها، فذهبت إليه وقصَّتْ عليه هذه المسألة، فقال لها صلى الله عليه وسلم: «أعَصريتها يا أم مالك؟» فقالت: نعم يا رسول الله، فأخبرها أن التجربة مع الله شكٌّ وأنها لو لم تعصرها ولم تظن هذا الظن لبقيتْ العُكَّة على حالها، وكما تعودت منها.
وتلحظ أن كلمة {أصابك} والمصيبة تدل على أنها واقعة بك ولن تنجو منها؛ لأنها قدر أرسل إليك بالفعل، وسيصيبك لا محالة، والمسألة مسألة وقت إلى أنْ يصلك هذا السهم الذي أُطلق عليك، فإياك أنْ تقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فما سُمّيت المصيبة بهذا الاسم إلا لأنها صائبتك لا تستطيع أنْ تفرَّ منها. كما يقولون عن الموت: تأكد أنك ستموت، وعمرك بمقدار أنْ يصلك سهم الموت.
وكلمة {منْ عَزْم الأمور} [لقمان: 17] نقول: فلان له عزم، ونسمع القرآن يقول: {فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [آل عمران: 159] العزم: الفرض المقطوع به، والذي لا مناص عنه، ومنه ما جاء في قول لقمان لما خيَّره ربه بين أن يكون رسولًا أو حكيمًا، فاختار الراحة وترك الابتلاء، لكنه قال: يارب إنْ كانت عزمة منك فسمعًا وطاعة، يعني: أمرًا مفروضًا ينبغي ألاَّ نحيد عنه.
والعزم يعني شحن كل طاقات النفس للفعل والقطع به، فالصلاة على الميت مثلًا لا تُسمَّى عزيمة؛ لأنها فرض كفاية إنْ فعلها البعض سقطتْ عن الباقين، على خلاف الصلاة التامة في السفر مثلًا حيث يعتبرها الإمام أبو حنيفة عزيمة لا رخصة، فإن أتممت الصلاة في السفر أسأْت، عملًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه».